تعطل الإنترنت خلال الأيام الماضية جراء البرق و الرعد، فاستغليتُ الفرصة لأكتب هذه التدوينة التي أنوي إضافتها منذ أسابيع. سآخذكم في رحلة -على حسابي- تعيشون فيها تجربة حرب تموز بتفاصيلها، بعيدا عن السياسة و معمعتها. سأنقل لكم مجريات الأحداث التي مررتُ بها. هيا شدّوا الأحزمة! شهر تموز (يونيو) بدأ و طلاب المدارس و الجامعات دخلوا في إجازة، و هذا هو الأسبوع الأول لي في الصيدلية التي قررتُ العمل بها في الصيف. أبيتُ الآن مع بعض الأصدقاء في شقة في بيروت، بعيدا عن هدوء الضيعة التي أسكن فيها.

قبل العدوان بأسبوع

كنتُ أمارس السباحة و أجوب عرض البحر بزورق و مجدافَين. يظهر خلفي في الصورة معمل الكهرباء الذي سأتحدث عنه في سياق التدوينة. أشياء كثيرة فقدت معناها بعد الحرب بما في ذلك البحر. الآن لم أنزل إلى البحر إلا مرتين أو ثلاث منذ إنتهاء الحرب. مناطق أخرى -مثل وسط بيروت- أيضا فقدت رونقها، و ستحتاج سنين طويلة لتستعيد حياتها.

قبل يوم من شن الحرب

12 تموز 2006 – سمعتُ صباحا خلال دوام العمل بأن حزب الله قد أسر جنديين إسرائيليين و قتل أربعة. عدتُ إلى الشقة بعد العصر مُنهكا لأجد أصدقائي متحلّقين حول التلفاز. كان الخبر كبيرا و يصعب إستيعابه. لم يكن متوقعا بأي حال، خاصة و أن طاولة الحوار بين السياسيين -و منهم  حزب الله- كانت لا تزال منعقدة، و أمور وطنية كثيرة يتم مناقشتها (منها قضية سلاح حزب الله) في سبيل الإتفاق على رؤية واضحة لمستقبل هذا البلد; لبنان.

أعلنت قنوات التلفاز المحلية بأن أمين عام حزب الله ((الأمين العام حسن نصر الله)) سيعقُد مؤتمرا صحفيا بعد قليل، فانتظرتُ أنا و أصدقائي بدء المؤتمر لنرى ماذا يجري بالتحديد، و كنتُ أشعر بالفرح لنجاح عملية الأسر، و خائف في الوقت نفسه من أن يؤدي ذلك إلى عواقب وخيمة.

ظهر “السيد حسن” على شاشة الجزيرة بوجه بشوش مهنّئا الجميع لما حدث و أخذ تارة يدردش مع الصحفيين و تارة أخرى يتوعّد إسرائيل بالويل إن تجرأت على الهجوم على لبنان. إرتفعت المعنويات.

صرّحَ جنرالات العدو الصهيوني يومها بأن لبنان سيعود 20 سنة إلى الوراء. قلتُ في نفسي: أضغاث أحلام! …

اليوم المشؤوم

13 تموز 2006 – ذهبتُ كالعادة إلى عملي، و كانت عملية الأسر الموضوع الوحيد الذي يشغل الناس جميعا. كل شيئ يسير بأحسن حال، الطقس جميل و الهمم عالية و الشمس متألقة والسماء زرقاء.

السماء بدأت تمطر بالصواريخ! و بدا أن ما توقّعته سيتحقق. قيل بأن جسرا يربط بين بيروت و مدينة صيدا قد قُصف و أن مطار رفيق الحريري الدولي ((مطار بيروت سابقا)) قد قُصف أيضا مما أدى إلى شلل حركة الطيران.

عندما كان حزب الله في السابق يقوم بعمليات أسر، كان العدو الإسرائيلي يرد بمجزرة أو بقصف عنيف على موقع معين أو منطقة من مناطق جنوب لبنان التي يتّخذها مسلّحوا حزب الله معقلا لهم. لم يحدث -أو ربما كان من النادر- أن تقصف طائرات العدو مناطق تقع بعد جنوب لبنان. هنا تظهر المناطق التي تعرّضت للقصف أثناء الحرب.

عودة إلى 13 تموز. بدأت وسائل الإعلام تنقل الأخبار من هنا و هناك عن صواريخ تستهدف الطرقات و الجسور، في ما بدا أنها خطّة لعزل المناطق عن بعضها البعض و شل الحركة العسكرية لحزب الله. تدافع الناس إلى مخازن الأغذية -من ضمنها الصيدلية- بشكل غير طبيعي لشراء المؤمن و المواد الغذائية و الأدوية. اضطربت الأجواء.

رجعتُ من عملي ووضّبتُ أغراضي الأساسية و تركتُ بيروت متوجها إلى ضيعتي لقضاء يوم الإجازة هناك. كل شيئ سيكون غدا على ما يرام، و لعل ما يجري مجرّد عدوان عابر.

أفقتُ في اليوم التالي (14 تموز) على مزيد من الأخبار السيئة. إتصل بي مدير الصيدلية ليقول بأنه يريدني أن أنزل إلى الصيدلية بأي شكل من الأشكال لأن حركة البيع غير طبيعية و لا يوجد مكاني بديل. قلتُ له بأنني غير قادر على النزول و هذا يوم إجازة. إنتهت المكالمة بمشادّة كلامية لم يكن لها أي داع. قُطعت الطريق الساحلية نهائيا بين بيروت و مدينة صيدا في نفس اليوم. لا عودة إلى بيروت :]

31 يوما في الضيعة

تقع ضيعتي في منطقة “الجبل” بين بيروت و صيدا و تُعتبر آمنة لعدم تواجد عناصر حزب الله فيها.

الآن أنا محبوس في المنزل، أتابع أخبار الحرب عبر التلفاز. كان لبنان يضيق يوما بعد يوم و أصبح محاصر من الجو و البحر و البر. تضاءلت كميات المؤن الغذائية و المواد الأولية و كان من الصعب نقلها من المدن إلى القرى و انقطع النفط. كانت طوابير الناس في محطات الوقود طويلة حتى أنني ذهبتُ يوما إلى واحدة لكي أملأ غالونا بالبنزين فانتظرتُ دوري حوالي 3 ساعات.

نزح حوالي المليون من أبناء جنوب لبنان -معظمهم شيعة- عن قراهم، و إستقبلهم الناس في بيوتهم في جميع أنحاء لبنان، و كانت ضيعتي قد إستضافت الآلاف منهم، حيث فُتحت لهم أبواب المدارس و البيوت لكي يحتموا فيها. و شاركتُ يومها بتجميع الملابس و المؤمن و الفُرش و المساعدات التي كانت تصلهم من دول عربية و أجنبية بعد إذن من الجيش الإسرائيلي الذي كان يسمح أحيانا بدخولها.

مع مرور الأيام، وصل وضع الكهرباء إلى حال مُزر جدا، خاصة بعد أن تعرّضت إحدى المحطات الرئيسية لتوليد الكهرباء للقصف عدة مرات في الأيام الأولى من الحرب. أدى ذلك إلى تسرّب مادة الـ fuel oil من خزّانات الشركة إلى البحر مما أحدث كارثة بيئية إستدعت إستنفارا عالميا. تلوّث البحر قبالة سواحل لبنان و سوريا جراء ذلك إلى أن تم تنظيفه بعد الحرب. الصورة الوحيدة التي إلتقطّها خلال الحرب كانت للدخان الصاعد من خزانات الوقود التي ظلّت تحترق لأسبوع أو أكثر.

كان حظنا أن نعيش في الظلام لساعات طويلة من النهار و أن نتابع الأخبار عبر الراديو. أما شبكة الإتصالات الأرضية و اللاسلكية فكانت تُقطع أحيانا كثيرة بين المناطق جراء قصف محطات إرسال الهاتف.

أم.ك

تدعى Searcher MK. II (صورة) و هي طائرة إستطلاع صغيرة الحجم تطير من دون طيار، كانت تجوب المناطق اللبنانية طوال أيام الحرب. صوتها شبيه بهدير الدراجة النارية. وظيفتها تحديد الأهداف التي يتوجب على طائرات الـ أف-16 قصفها.

كنا نسهر الليل أنا و أصدقائي على صوتها الذي لا يسكت. و متى ما لاحظنا تحليقها المكثف فوق منطقة معيّنة عرفنا بأن الغارة المُقبلة ستكون هناك.

تلك الليلة

كنتُ جالسا مع أصدقائي في الخارج نتبادل الحديث عن مجريات الحرب. كان النسيم عليلا و الهدوء قاتلا، و إذ نسمع صوت طائرة حربية هبطت فجأة من السماء إلى علّو منخفض جدا و ما هي إلا ثوان معدودة حتى أصبح الجبل الواقع أمامنا كتلة من الضوء و صدر صوت إنفجار زلزل الأرض تحت أقدامنا.

اختبأتُ و أصدقائي على الفور في غرفة مجاورة. ماذا جرى للتو؟! وما هي إلا دقائق حتى شُنّت الغارة الثانية على المكان نفسه ثم اختفت الطائرات بعدها. تضاربت الأخبار حول ما جرى. و عرفنا في اليوم التالي بأن المكان الذي قُصف كانت تركن فيه شاحنتان كبيرتان للنقل، و كانت الطائرات تقصف كل شاحنة بمن فيها بحجّة إمكانية نقل السلاح بواسطتها. إستشهد عدة أشخاص كانوا قد هرعوا إلى مكان القصف عقب الغارة الجوية الأولى مباشرة، فأصابتهم صواريخ الغارة الثانية.

عربدة

طال بنا الإنتظار و توالت الأحداث. كل يوم نسمع عن إستشهاد عشرات المدنيين، و لا سيما ما حدث في مجزرة قانا الثانية التي راح عدد ضحاياها 55 شخصا من بينهم 27 طفلا. في الأيام الأخيرة من الحرب، تفاقم القصف على ضاحية بيروت الجنوبية. كانت تنزل القذيفة بوزن 1000 كيلوغرام على البناية فتجعلها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا و لا أمتا. تغيّرت معالم الضاحية الجنوبية قبل و بعد الحرب – شاهدوا الفرق.

قبيل أيام من وقف العدوان الإسرائيلي، تسللتُ إلى بيروت، عبر طرقات وعرة شُقّت للحالات الطارئة، لكي أنجز بعض أموري. كان المنظر على الطريق فادحا. الجسور مهدّمة و الطرقات مخرّبة و بيروت في حال يرثى لها; لقد غابت الحياة عنها. كان المنظر أشبه بغابة مهجورة خاوية على عروشها.

إنتهت .. مؤقتا.

توقّف إطلاق النار في 14 آب (أغسطس) و إنهت الحرب عمليّا في 8 أيلول (سبتمبر) من ذلك العام بعد أن رفع الأسطول البحري الإسرائيلي حصاره عن لبنان.

  • إنتهت حرب تموز بإستشهاد 1191 من المدنيين اللبنانيين، قسم كبير منهم من الأطفال و النساء، في حين أن 44 قتيلا فقط سقطوا في صفوف المدنيين الإسرائيليين. ((حرب لبنان – ويكيبيديا بالإنكليزية))
  • 33 يوما عشتهم بالثانية و الدقيقة. لا يشعر الناس بقيمة شيئ إلا إذا فقدوه. كيف يكون شعورك و أنت لا تدري أهذه الدقيقة أم التي بعدها سيسقط صاروخا فوق رأسك؟ ماذا يعني لك أن تنزح عن أرضك و بيتك؟ ما هو شعورك و أنت ترى بلدك يُدمّر؟
  • تمنّيتُ كثيرا خلال الحرب أن أتطوّع لإنقاذ المصابين و المرضى في جنوب لبنان، حيث كانت السماء تُمطر بالصواريخ و القنابل بشكل جنوني. أكثر من مليون قنبلة عنقوديّة أمريكية الصنع ألقيت على لبنان خلال الحرب، 40 بالمئة منها لم تنفجر. و يمكن للقنبلة العنقودية الواحدة أن تحوي 200 – 650 قنبلة صغيرة تنتشر عند انفجارها على مساحات واسعة، علما بأن معظم القنابل الصغيرة لا تنفجر فورا عند ارتطامها بالأرض؛ فتبقى مكانها سنوات طويلة، لتنفجر لاحقا عند ملامستها. ((مجلة آفاق البيئة و التنمية))

 

أتمنى أن أكون وُفّقت في سرد الأحداث، و أن تكون وضحت لكم صورة ما كان يجري خلال الحرب. يسعدني أن أسمع تعليقاتكم و نقدكم.

يمكن الإطلاع على تفاصيل الحرب يوم بيوم في ويكيبيديا – بالعربية أو بالإنكليزية.