إن إشاعة آراء معينة من تشريعات الدين و تعميمها على أنها هي الرأي الواحد الأصح، وأنها صلبُ الدين، لم يخدم الديانات برمتها، وجعلها تدخل في صراعات جانبية مع البشر. كالذي ينشغل في تفسير مشهد ثانوي من فيلم عظيم ويحارب من أجل إقناع الناس بصحة تفسيره لهذا المشهد.

فمن هذه المشاهد الثانوية التي ابتلينا بها: الحجاب، الميراث، “القوامة”، النقاب، لماذا يسمح الدين للرجل بكيت وكيت و ممنوع على المرأة كذا وكذا، و غيرها الكثير من المواضيع والتفاصيل المملة التي طغت على المعنى الأساسي للدين و الهدف من وجوده.

ورغم تلك الشذوذ، لازلت أعتقد أن تكوين رأي مؤيد أو معارض للدين لا يجب أن يرتكز على ما يدور من نقاشات و ثرثرات في “الصالونات الدينية” حول تفاصيل قد لا تقدّم و لا تؤخر من أمر الناس في شيء، أو مواضيع هي في الأصل قابلة للفهم بطرق مختلفة نتيجة تغير الظروف و الزمان و العادات، و يبقى أن نتعلم العبرة منها فقط.

فموضوع الميراث مثلا كان في زمن لم تكن فيه المرأة تعمل كالرجل أو تشارك في تكاليف المعيشة، فما يمكن أن يُفهم اليوم بأنه إجحاف بحق المرأة كان منصفا لها بالأمس، و الدين لم يأت ليقلب عادات المجتمعات رأسا على عقب وبضربة واحد (إلا الشاذ كثيرا منها) بل جاء ليهذبها و يضع قوانين عامة، كالإنصاف في الميراث (الذي كان مناسبا لذلك الزمان). أما تعريف الإنصاف اليوم سيختلف بطبيعة الحال. لست هنا أقترح أية حلول، لأنني لست أهلا لذلك، بل أدعوا فقط الأشخاص المعنيّين لإعادة القراءة والاجتهاد.

و من الأمثلة على تهذيب الشاذ من عادات المجتمع كان ارتداء المرأة قبل الإسلام غطاء الرأس مع بقاء منطقة الصدر مفتوحة، فجاء القرآن فقال “فليضربن بخمورهن على جيوبهن”. فلم يمكن الأمر بارتداء الخمار (لأن النسوة ترتديه أصلا) بل بتغطية منطقة الصدر (الجيب).

هذا كل ما قاله القرآن في حق الخِمار قبل أن يتحول إلى قضية العصر و قبل أن يصبح رمزا للعفة و الاخلاق وما إلى ذلك من عبارات خادعة. إلا أن القرآن أكد على معانٍ عامة في هذا الشأن، مثل لزوم الاحتشام والأناقة في اللباس، وهو أمر مطلوب من المرأة و الرجل في آن واحد.

وهكذا أستطيع أن أستمر في سرد الأمثلة التي لا تتناهى، و لكن سأتوقف لأؤكد أن المؤسسات الدينية -في رأيي- أضاعت الكثير من مجهوداتها على محاولة إثبات آراء و معتقدات ليست هي من أساس الدين. ركّزت على حرفيّة الكلام و مجارات العادات و الساسة، وغفلت عن المغزى من الأمور.

إذا فالمسألة مرتبطة بخلل في التعاطي مع النص الديني أو في منظومة التفكير، و في حين أن هذا أمر طبيعي نتيجة لاختلاف طرق التفكير بين الناس، إلا أن المؤسسة الدينية طغى عليها طابع معيّن من التفكير جعل الفكر الديني عقيما، و قد استمر ذلك لفترة طويلة حتى تحول الأمر إلى حالة طبيعية. كالماء الراكد يُصبح آسنا بعد مدة. و قد زاد الطين بلّة بروز أحزاب و جماعات دينية تتبنى هذا النمط من التفكير، فعملت على ترسيخ التخلّف و عدم تجاوز المحظورات.

و رغم حدوث تطوّرات و تصحيحات عبر السنين الماضية و تغيّر في المفاهيم و تخطي لما كان يعتبر محظورا لسنين (كسياقة المرأة في السعودية) فإن هذا التطور لا يزال يمشي ببطء مقارنة بسرعة التطور في مجالات الحياة الأخرى. الشركات اليوم تُصدر أجهزة إلكترونية جديدة كل سنة أو أقل و تعمل على مراجعة تصميماتها و إضافة تحسينات في مختلف الجوانب، في حين أنه إلى وقت قريب كان الناس لا يزالون يتجادلون في “حرمة سياقة المرأة” و هم لا يزالون إلى اليوم يتناقشون في ذات التفاصيل التي ذكرتها في الأعلى و هي نفسها التفاصيل التي ألفت فيها كتب مرات ومرات، والنتيجة: تكرار و لَغوْ و غفلة عن “الصورة الكبرى”.

في التدوينة القادمة والأخيرة فيما يخص هذا الموضوع سأتحدث عن الصورة الكبرى، أي عن ما أعتقد أنه لب الدين و أساسه و سبب وجوده أصلا.

كلمات مفتاحية: |