الخمار

لم تكن المجتمعات الغربية قبل عقود ليست ببعيدة تتقبّل ظهور الفتاة في المجتمع بشعر مكشوف. كانت هناك ضوابط تفرضها المجتمعات على المرأة إما لاعتبارات دينية أو أخلاقية. وكان غطاء الرأس في بعض الأحيان يستخدم كسلاح ضد المرأة. وكان للرجال أيضا نصيب من غطاء الرأس.

جدّتي و “المنديل”

كنتُ أتحدث مع جدّتي -رحمها الله- مرّة و ساقني الفضول لأن أسألها عن شبابها و حياة جيلها الذي عاش في العشرينيات من القرن الماضي.

المنديل على رأس عجوزات روسيات

حدّثتني عن عادات زمانها، و قالت إن البنت إذا بلغت سنّ الرشد، كانت لا تخرج من المنزل إلا و على رأسها “منديل”. و المنديل في اللهجة العامية كان يُقصد به غطاء الرأس، و كان يُعدّ مظهرا عاما لا يقتصر على بلاد العرب و المسلمين، بل كانت النساء في كثير من مناطق العالم يضعنه على رؤوسهنّ كما هو واضح في الصورة السابقة للعجوزات الروسيّات. و من هذه النقطة أحب أن أبدأ الكلام.

قديما

كانت العاهرات في زمن الآشوريّين يُمنعن من تغطية شعرهنّ. غطاء الرأس كان رمزا لشرف و عفّة المرأة. أما في المجتمع الجرماني فكانت المرأة المتزوجة تغطّي رأسها. و كانت المرأة اليهودية الصالحة قديما أيضا تغطّي رأسها و جسدها لإعتبارات دينية و أخلاقية. وأوضح مثال على ذلك هو السيدة مريم (إذ هي بالأصل يهودية) التي ليس لها تمثال أو صورة بشعر مكشوف.

ثم جاء في الإنجيل على لسان بولس ((أحد الذين كتبوا الإنجيل بعد وفاة المسيح عليه السلام.)) أن المرأة يجب أن تغطي رأسها، كما جاء في الصفحة التالية التي تظهر فيها الآية المعنيّة ((و كل امرأة تصلّي أو تتنبّأ، و ليس على رأسها غطاء، تجلب العار على رأسها، لأن كَشْف الغطاء كَحَلق الشعر تماما. فإذا كانت المرأة لا تُغطي رأسها، فليُقصّ شعرها! و لكن، ما دام من العار على المرأة أن يُقص شعرها أو يُحلق، فليُغطّ رأسها.)) .

من هنا، لازالت كثير من الكنائس اليوم تُلزم المرأة بتغطية رأسها قبل دخول الكنيسة، و كذلك الراهبات يغطّين رؤوسهنّ.

أما الرجال، فكانوا يغطون رؤوسهم لحمايتها من الشمس في المجتمعات الرومانية و الفينيقية و الآشورية، و كذلك المصريين القدامى و العرب.

القرون الوسطى

كان غطاء الرأس في أوروبا في القرون الوسطى زيّا سائدا تلبسه النساء، في حين أن بعض المدن الأوروبية -مثل مدينة نارمبرغ عام 1459- كانت تُمنع النساء الذين يرتكبن جريمة الزنى من أن يغطّين رؤوسهنّ.

عصر النهضة

إلى هنا كان لايزال لغطاء الرأس مدلوله الديني الأخلاقي، و لكن بعيد النهضة الأوروبّية (Renaissance) أي ما بعد القرن الخامس عشر، بات الشعر كافيا ليكون بحد ذاته غطاء للرأس، و هكذا بدأت النساء الأرستقراطيات يُبدين إهتماما فيه، فيصفّفنه و يسرّحنه و يقصُصنه و يُفرّطن في الإعتناء به لكي يظهرن بأحسن مظهر أمام الملأ، خاصة في الحفلات الراقصة (Balls) التي كانت تقام في إنكلترا في ذلك الوقت. و ظل غطاء الرأس مقتصرا على النساء المنتمين للطبقة الوسطى والفقيرة و الذين لا يقدرن على صرف أموال كثيرة للإهتمام بشعرهنّ.

مدبّرة منزل تغطي رأسها

و قد وضّح الرسّام الهولندي جوهانس فيرمير حال تلك الحقبة، فيرسم المرأة التي عاشت في عصره -في القرن السابع عشر- فيبيّن مثلا في هذه الرسمة صورة المرأة الفقيرة التي تضع غطاء الرأس و في هذه الرسمة صورة للمرأة المُقتدرة التي يستحوذ شعرها على إهتمام كبير منها. لا أدري إن كنتم قد شاهدتم فيلما بعنوان The Girl with the Pearl Earring و الذي يدور حول رسمة لفتاة خادمة رسمها جوهانس، حيث يصوّر الفيلم كيف أن تلك الفتاة رفضت أن يرسمها جوهانس مكشوفة الرأس. بإمكانكم الإطلاع على جميع لوحات هذا الرسّام لمعرفة المزيد عن الحياة الأوروبية في القرن السابع عشر من خلال هذه الصفحة. ((جوهانس فيرمير – ويكيبيديا.)) .

الشعر المستعار

ظهرت فيما بعد -في القرن السابع عشر- في أوروبا ظاهرة الشعر المستعار بين نساء ورجال الطبقة الأرسطقراطية بشكل خاص. وكان للشعر المستعار استخدامات عديدة، منها أنه يواري الصلع و أنه يقي الناس من القمّل، بالأخص النساء. وكانت النساء تحلق شعرها وتضع شعرا مستعارات كونه لا يستقطب القمّل كالشعر الطبيعي. و كان يستخدم أيضا لاعتبارات جمالية.

تجدر الإشارة بأن كلمة wig المختصرة عن كلمة periwig دخلت اللغة الإنكليزية منذ حينها عام 1675 و الكلمة تعني “شعر مستعار” و تقابلها كلمة peruque في اللغة الفرنسية.

الشعر المستعار للرجال في القرن السابع عشر

أما بخصوص الرجال،كان الملك لويس الرابع عشر الذي حكم فرنسا عام 1654 قد يبدأ يعاني من الصلع فلبس الشعر المستعار، مما شجّع أكثر على انتشار العادة بين رجال رجال الطبقة الأرستقراطية و بلاط الملك و أساقفة الكنيسة و المحامون. وكانت  “الموضة” آنذاك هي الشعر الطويل، كما في الصورة أعلاه.  ((ويكيبيديا.)) .

لقد ظل الشعر المستعار حتى القرن التاسع عشر في فرنسا و الولايات المتحدة رمزا للرقيّ الإجتماعي.

عودة إلى القرون الأخيرة

في القرن التاسع عشر و القرن العشرين كان غطاء الرأس لا يزال مظهرا عاما من مظاهر الحياة في أوروبا و أميركا. و المرأة الأرستقراطية التي لا تغطي رأسها كانت تضع ما يشبه القبعة على شعرها في ذلك الحين، اي أما يسمى cap أو bonnet كما يظهر في هذه الصورة .. فكان غطاء الرأس بشتى أشكاله بمثابة الزينة لدى النساء في الغرب في ذلك الحين، و كان في طور فقدان دلالته الدينية الأخلاقية.

أما الرجال في المنطقة العربية، فكانوا يضعون “العقال والكفيّة” على رؤوسهم، وهو الزي السائد إلى حد اليوم في دول الخليج، بينما لازال يرتديه المعمّرين من العصر الماضي في دول الشام. كذلك بالنسبة لـ “الطربوش” كان زيا سائدا في دول الشام ومصر والمغرب. وتعود قصة الطربوش إلى عهد السلطان العثماني محمود الثاني الذي أصدر فرماناً بحدود العام 1830 للميلاد يفرضه كغطاء للرأس على الموظفين والأسلاك العسكرية. لم يكن للطربوش دلالات دينية كما يراه رجال القرن الماضي بل كان بنظرهم رمزا للرجولة. ونحن في مطلع العام 2012 ما عاد هناك اهتمام كبير بالطربوش الأحمر ولبسه سوى رجال الدين الذين يضيفون عليه العمامة البيضاء ( الشاش )  ((راجع مقالة: عصر الطرابيش … هل تذكرون ؟))