قبل أن أصغي إلى نفسي: وأنا جالس على كرسيّي أمام حاسوبي المغفّل إشتعل في صدري حنين إلى ماض قريب أردت مرارا أن أنشره في صحيفة لساني. عدت بذاكرتي إلى الماضي متحسرا على ما فات وإندثر تحت الغبار. تراءى لي مشهد نيرون وهو ينظر إلى مدينته روما تحترق على مرأى من عينيه. لم أستطع ان أقاوم الشعور فإنتشلت من جعبتي لفائف من ذلك الماضي الذي لم ييبس بعد .. وأشعلتها ..

في البداية كانت الحياة  … ثم جاء الموت على جواد أبيض …

من وسط (بيروت) في ليلة وضع القدر يده على عنقها فسكنت سكون الموتى, إرتفع صوت شجيّ من الداخل. كلمات مُحكمة, ليست بشعر, تُغمض عينيك فتفتحها بعد 309 سنين لترى أنك لازلت مكانك. لكنك لست في كهف, بل داخل مسجد عتيق تروي أحجاره تاريخا لم يُكتب. نظرت إلى ساعة يدي وكان الصبح قد إقترب والأبصار قد سُكّرت. إمتزج صوت الصمت بكلمات من القرآن الكريم, زاد من طهارتها مطر نزل غفلة من السماء, فإهتزت الأرض. إشتد المطر. كلما إشتد المطر خمدت جثث المصلين الذين خضعت أعناقهم لآيات الله. ثم إشتد أكثر فأكثر حتى تحلّلت الآيات في الماء فشربتها الأرواح وإمتصتها الأجساد الترابية.

الحياة قد أطلّت من جديد …

مرت الأيام وعاد فصل رمضان حاملا معه ليلة قدر جديدة. أما اللقاء فكان هذه المرة حارا و من منطقة (صيدا). الآن المكان مختلف والصوت مختلف لكن الكلمات نفسها. لم يكن هناك أمل حتى آخر لحظة أن تمطر السماء, فلم تمطر. نظرت إلى الساعة يائسا متسائلا: أليس الصبح بقريب؟ تالله لقد إختفى تأثير الآيات. شعرت أنني قطعة لحم مقدّدة ملقاة في مغارة وقد مضى عليها 3 أشهر … فإنتظرت حتى يأتي الله بأمره. فإذا بصوت إمام يأتي من الصف الأمامي! فهبّ مناجيا داعيا حامدا شاكرا. راح صوته يعلوا ويعلوا حتى كادت تنسلخ أرواحنا عنّا وهو يصيح “يا الله”. ترى الصوت يقصف كالرعد ينزل على جسدك المتعفّن بأقصى قواه جالدا إياك, يقول لك “ذُق”. ما هي إلا دقائق حتى بات جسدي كالحلث البالي وها هي أنهار من الدم الأسود العَكِر تتدفق من فمي وأنفي حتى بدى وجهي ككوكب متشقّق. فقدت الشعور بالألم. إتسع محيط عيناي كثيرا فابتسمت منتظرا شيئا ما أعرف مسبقا أنه سيحدث .. بل كنت أنتظر قدومه يوما ما. إنه زلزال داخلي ضرب شبكة العين إستطاع بدويّ إنفجاره أن يزيح كل عضلة صغيرة وكبيرة في جسمي من مكانها. أنظروا إلى الدمع كيف يتدفق في عروقي الآن آخذا معه الزبد المتراكم الذي خنق شراييني. أنظروا إليه كيف صار ينابيع وأنهار تجري من تحتنا. ينابيع وأنهار طافت على جميع من في المسجد فأغرقتنا جميعا, وانظروا إلى الملائكة تملىء الهواء الذي بدأ يرتجف. لعمري كيف تحول ذلك الهواء إلى حيوان مفترس قذف بي إلى دوامة ذلك الطوفان. أتخبط فيه في موج كالجبال, أحاول أن أتنشق النفس الأخير وأستعيد شريط حياة ممزّق. كل شيىء كان يتضعضع وكنت على شفا حفرة من السقوط, فسقطت! شعرت أن العامود الفقري, الذي أبى إلا أن يتفرعن طيلة مسيرة حياتي — ها هو أنظروا إليه ينحني ويسقط على الأرض متناثرا, خاشعا, كجبل متصدّع رأى الله جهرة. إستقيظت من غفلتي لكي أراني ألبس لباسا غير الذي كنت ألبسه قد تركت التقوى بصماتها عليه. إنه شعور – لو كان لونا لقلت فوق البنفسجي – تنقطع صلة الوصل فيه بين عينيك وفمك, فترى عيناك تريد البكاء فتبكي, والدمع الذي يتساقط خوفا وطمعا يرتطم بثغرك الضاحك, وكلما إلتقى الضحك بالدمع, تنبعث قشعريرة في أحشاء بدنك, تنقلك إلى عالم الأمان و تضعك في مرتبة الزّهد.

وها هي الحياة قد أطلّت علينا … مرة أخرى! …